تنتظم نظريّة النظم التي وضعها عبد القاهر الجرجاني أربعة أركان: ١- الحال أو المقام. ٢- مقتضى الحال. ٣- الكلام. ٤- صورة الكلام أو العبارة عن الكلام. والعملُ النظمي يقوم بين الثاني والثالث من خلال المطابقة؛ لأنّ المقتضى يوجد في الذهن والكلام يوجد في النفس، وإذا كان النظم صناعةً في المعنى المسمّى عندهم كلامًا فإنّ المواد التي تحتاجها صناعةُ الكلام ما يلي: ١- الأوضاع اللغويّة. ٢- الغرض. ٣- المعاني النحويّة. ٤- المقتضى. ٥- التصريف النفسي أو الترتيب النفسي. وعند دخول هذه المواد وصنعِ المعنى الإضافي الذي يكون نتيجة جمع الأوضاع اللغوية مع المعاني النحويّة، وهذا المعنى الإضافي هو الثمرةُ والمطلوب الذي يريده المقتضى، وتشترطُ فيه المطابقة. وإذا كان ذلك كذلك فإنّ التزام المتكلم بمواد صناعةِ الكلام ينتج...
بحث البلاغيون عن الآلةِ التي تنتج الكلام في الإنسان، ووضعوا لها اسم البيان والبلاغة، ثم اشتغلوا في طريقة عمل هذه الآلة المخلوقة في الإنسان ووضعوا في ذلك نظريتي: البيان والنظم. ‫ وقد حددوا أنّها تعمل وفق مفهوم المطابقة الذي كان لكل منهم طريقته في تحديده، وكان سبيلهم في تحديد مفهوم المطابقة أنْ ينتجوا مفاهيم أخرى تساعدهم على كشف القناع، وهتك الحجاب، والاستدلال على تصريفات النفس. ‫ ولم تكن المطابقة بين اللفظ والمعنى مطابقةً ساذجة، بل كان لهم فيها ذكاء يراعي العلاقة بين ما يؤمنون به من معتقدات، وما يشاهدونه من موجودات، وما يعيشون فيه من جماعات بشريّة، ولذلك طابقوا بين الألفاظ والمعاني من خلال الاختيار؛ لأنه معيار تحقق كلاميّة الكلام، أو طابقوا بين المعاني والمقتضيات وجعلوا اختيار الألفاظ طريقًا...
قالوا في تعريف البلاغة أنها: مطابقة الكلام مقتضى الحال مع فصاحته. والمطابقة من مفاهيم الجاحظ في البيان والتبيين، وهي كون اللفظ موافقًا للمعنى دالا عليه، فمطابقة المنطوق (اللفظ) المعنى، هي: دلالته عليه، أما المطابقة في النظم فهي كون الكلام (المعنى القائم بالنفس) مطابقًا لمفهوم الحال الخارجيّة وهو مقتضاها، فإذا كانت الحال تكذيبًا اقتضت أنْ يكون الكلام (المعنى القائم بالنفس) مؤكَّدًا، ولا سبيل إلى ظهور مطابقة المقتضى إلا بالتراكيب اللفظيّة التي هي صورةُ المعنى أي: صورة الكلام وليست الكلام، ولذلك جعلت مؤشرًا على تغيّر المعنى القائم بالنفس، أي: إنّ التغيّر في صورة المعنى أو العبارة، أو صورة الكلام مستمدٌّ من التغيّر في المعنى القائم بالنفس أو المسمّى كلامًا. وهذا التّغيُّر سببه البحث عن مطابقة...
سمّى الجاحظ الوحدات اللغويّة التي ننطقها صورةً كلاميّة وتبعه على ذلك عبد القاهر الجرجاني، وقد أدّى ذلك إلى أنْ يكون ناتج هذا الموقف أنّ البلاغة ليست في الوحدات اللغوية، بل في العمل الذي نتجت منه الصورة الكلاميّة، أي: الكلام في الاختيار الذي يطابق اللفظ به المعنى، والكلام عند عبد القاهر الجرجاني في النفس، وما هذه الوحدات اللغويّة إلا كيفيات الترتيب الذي تصرّفت فيه النفس. ومن هنا يمكن أنْ نجد السبب الذي دفع النظميين إلى استثناء البديع من جوهر المزيّة؛ لأنّه ليس معنى إضافيًّا يجمع بين معاني الأوضاع اللغوية ومعاني النحو البينية. وقد سمّى عبد القاهر الجرجاني ما هو فيه من توخّي معاني النحو بأنّه "فيما لا يكون الكلام كلامًا إلا به"، ومعن ذلك أنّ كيفيات البديع ليست كلامًا لارتباطها بالوزن، والوزن لا...
الصورة الكلاميّة عند أصحاب المطابقة والنظم ليست كلامًا إلا بما سبقها من الاختيار في المطابقة والتصريف النفسيّ في النظم، وهذا يشعرني أنَّ تفسير الكلام عندهما ليس بالصوت والحروف، بل بشيء آخر ليس له صوتٌ أو حروف، وهذا توجُّهٌ عقديٌّ. قال عبد القاهر الجرجاني: "ويزدادُ تبيانًا لذلك بأنْ يُنظَرَ في القائل إذا أضفتَهُ إلى الشعر فقلتَ: امرؤ القيس قائل هذا الشعر: من أين جعلته قائلا له؟ أَمِنْ حيثُ نطقَ بالكَلِم وسمعتَ ألفاظَها من فيه، أم من حيث صنع في معانيها ما صنعَ وتوخَّى فيها ما توخَّى، فإنْ زعمتَ أنَّكَ جعلته قائلا له من حيثُ إنه نطق بالكلم وسمعتَ ألفاظها من فيه على النّسق المخصوص فاجعل راوي الشعر قائلا له فإنّه ينطق بها ويخرجُ من فيه على الهيئة والصورة التي نطق بها الشاعر". وهذا مذهبٌ كلاميٌّ...
يتراءى لي أنّ بيان الجاحظ وبيان الجرجاني ليسا في التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية والمماثلة، بل يكمنُ البيان الجاحظي في الاختيار، ويقع سرُّ البلاغة ودلائل الإعجاز في التصريفات الإضافيّة. وأنت إذا قرأتَ: وجهٌ كالشمس. فإمّا أن تنطلق في الآلة البلاغيّة من اختيار (الكاف) واختيار (الشمس) وهنا تكونُ جاحظيَّ الكشف، أو تنطلقُ في الآلة البلاغيّة من الكيفية الكلاميّة المحذوف أولها نحويًّا وآخرها بلاغيًّا وهو (التشبيه المجمل) وحينئذٍ تكون جرجانيّ التحليل. والبيان الجاحظيّ يقوم على الكشف عن المعنى باللفظ المميَّز المختار؛ لأنّ المعاني -وإن كانت مشتركة- فالألفاظ متباينة بتباين الجماعات المتكلِّمة فليست القصيدة أدبًا حتى تكشف لك عن المعنى بالألفاظ التي يختارها صاحبها؛ لأنها ألفاظ اجتماعيّة قبل أنْ تكون...
الصورة الكلامية في بلاغة المطابقة مغايرةٌ للصورة الكلامية في بلاغة النظم من جهة أنّ بلاغة المطابقة تريد تحقيق الوضع اللغوي المناسب للمعنى، وليست المزيّة في اللفظ من جهة كونه لفظًا له معنى، بل من جهة أنّه لفظٌ اختير وفُضِّل على غيره لتطابقه مع المعنى، ولذلك إذا صلح للمعاني ألفاظها المختارة لها خرج الكلام على صورةٍ بليغة. أما الصورة الكلامية في بلاغة النظم فأنّها تريد تحقيق التوفيق بين مقاصد الكلام وأغراض المتكلّمين وهذا شيء لا يتمُّ بالأوضاع اللغويّة؛ لأنّ المعاني المقصودة بالنظر هي المعاني الناتجة عن التصرُّفات النفسية بالكيفيات الكلامية المخصوصة، ولذلك لا تتحقق بلاغة النظم إلا في الصورة الكلامية لاشتمالها على الأوضاع اللغوية والتصرُّفات النفسيّة التي تنتج الصورة الكلاميّة بكيفية مخصوصة...
ترجعُ المزيّة في كل صورةٍ كلاميّة إلى أحدِ أمرين خارجين عن اللغة والكلام: ‏١- الاختيارُ العقليّ المطابقي. ‏٢- التصريفُ النفساني الإضافيّ. ‏والأول اختيارُ أبي عثمان الجاحظ، والثاني اختيارُ عبدالقاهر الجرجاني. وبذلك يمكنُ تفسيرُ الآلة البلاغيّة التي كان علماء البلاغةِ يفكّرون في مزايا الكلامِ من خلالها بأنّها: ‫ ١- آلةٌ تعملُ على البلوغِ الإفهامي بالمطابقة. ‫ ٢- آلةٌ تعملُ على البلوغ الإفهامي بالتصريف النفساني. ‫ ويختلفُ الإفهام بين المطابقة والتصريف النفساني إذ الإفهام في المطابقة لا يتحقق حتى يكون اللفظ مطابقًا للمعنى مما يدلُّ على مركزيّة المعاني ووجودها السابق للغة في الأذهان، وأنّ الجهل بها سببه عدم إدراك الإنسان للألفاظ المطابقة، وهذا يشير من جهةٍ أخرى إلى أنّ ناطقيّة الإنسان ناطقيةٌ...