الصورة الكلاميّة أحد المفاهيم الجاحظيّة التي قدّمها في حديثه عن بلاغة المطابقة، وهي عنده الناتج النهائي المدهش الباعث في المتلقي شغف البحث عن سبب المزيّة وسرِّ الإدهاش. وأخذ أصحابُ النظم بالصورة الكلاميّة لأنّها حقيقةٌ ذات دلالة على منتجها، وأصحابُ النظم يبحثون في مزيّتها المدهشة، والكيفيّات التي أنتجتها. والفرق بين الفريقين أنّ مكمن المزيّة عند المتكلّمين هو في فن اختيار الألفاظ؛ إذ بالاختيار يقع التفاضل بين الطبقات والأفراد، ويعرفُ ثراء المرء من فقره، ويصبحُ حجاب المعنى ظاهرًا لا غموض فيه. أما مكمن المزيّة عند أصحاب النظم فهو في التوفيق بين مقاصد الكلام وأغراض المتكلّم، والمزيّة عندهم في الوحدات الطويلة القائمة على مسندٍ ومسند إليه بينما هي عند المتكلمين في المفردات داخل الوحدات الكلامية...
ينمي الوعي في الاتصال البشري بالآلة البلاغيّة من خلال مذهبين: ١-مذهب المتكلمين الذين يتشكّل الوعي الاجتماعي عندهم بالألفاظ؛ لأنّ المعاني لا تتفاوت والألفاظ متفاوتة عند تطبيقها على المعاني. ٢-مذهب الأدباء الذين يتشكّل الوعي الاجتماعي عندهم بتكيفات المعاني النفسيّة التي تعمل في الفراغات الواقعة بين الأوضاع اللغوية، وهذا يشيرُ إلى أنَّ المعاني شيئان: ١-معان خارج النفس وهذه لا علاقة لها بالمزيّة البلاغيّة. ٢-معانٍ نفسيّه هي جوهر المزيّة الذي تشيرُ إليه نظريّة النظم -أو لنكن أكثر اتصالا بالتراث فنقول: بلاغة النظم- وموطن التفاضل؛ لأنّ المعاني النفسيّة تنشأ ومعها ألفاظها المطابقة لها، فصياغة الكلام عندهم تبعٌ لتصرّفات النفس. وفرقٌ جوهريٌّ بين المذهبين يظهرُ من أنَّ الآلة البلاغيّة في مذهب المتكلمين...
اعتنى المتكلِّمون بالآلة البلاغيّة لأنها تمكِّنُ المتقن لها من الاتصال بالناس وتحقيق المقاصد والمحافظة على حقائق العالم فهمًا وإفهامًا. والآلة البلاغية عند المتكلمين آلةٌ تنظرُ في مطابقة الألفاظ للمعاني لا مطابقة الألفاظ لمقتضيات الأحوال؛ لأنّ المعاني حقائق موجودة خارج النفس الإنسانية، بل ملقاةٌ في الطريق، ويشترك في معرفتها صغار الناس وكبارهم. وما دامت المعاني مشتركة بين الناس وهذا من مقتضيات العدل فإنّ اختلاف الناس ناشئ عن اختلاف ألفاظهم عنها لا عن اختلافها في ذواتها؛ لأنها حقائق الوجود التي خلقها واجب الوجود. وبفهمنا لموضوع مطابقة الألفاظ للمعاني يتضحُ انا فرق ما بين بلاغة المطابقة وبلاغة النظم؛ لأنّ المطابقة تشتغل في العلاقة بين المعنى واللفظ، والنظم يعمل في العلاقة بين الأوضاع اللغوية...
أشار د. إبراهيم الخولي إلى أقدم تعريفٍ دقيق للبلاغة وأنّه هو قولُ عمرو بن عبيدٍ المعتزليّ: "تخيُّرُ اللفظ مع حُسْنِ الإفهام"، وذكر أنّ تعريف عمرو لا تظهر فيه فكرة المطابقة بين اللفظ والمعنى، وهذا ينفي عن لفظة (التّخيُّر) أن تكون منبعثة من النظرة التي توازن بين ما ترى وما تريد إنتاجه بهيئة كلاميّة؛ لأنَّ التّخيُّر عندئذٍ ليس متصلا بفهم طاقات الألفاظ وقدراتها على مطابقة المعنى المراد نقله للآخرين، ولا يمكن المتكلِّم حينئذٍ أنْ يفيد العامّة معنى بما يتداولونه بينهم من ألفاظ. ويشعرني صنيعُ المتكلِّمين واهتمامهم بشأنِ الألفاظِ أنَّ الآلة البلاغيّة لابد أنْ تفيد المخاطب إفادةً لفظية تبين له أنَّ المعنى الذي يتداوله الخاصَّة هو معنى موجودٌ في محيطه، وهو يعرفه ابتداء لكنّ سبب خفائه عليه يرجعُ إلى...
من ضرورات العلم والتعلُّم أنْ تصنّف الجهودُ السابقة في كلمات تطابق ما قُدِّم فيها، وقد نبّه على ذلك الجاحظ في عبارته: (ولكل نوع من المعاني نوعٌ من الأسماء)، وعبارته الأخرى: (فإنْ كان الخطيب متكلِّمًا تجنَّب ألفاظٌ المتكلِّمين، كما أنَّه إنْ عبَّر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا أو مجيبًا أو سائلا كان أولى الألفاظ به ألفاظُ المتكلّمين؛ إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحنّ وبها أشوف). ومما انتشر في زمان العرب المتأخر لفظُ (مدرسة) من أجل تصنيف الجهود العلمية المبذولة في سياق معيّن، وتقودها أصولٌ واحدة. وأول من فرَّق بين الجهود البلاغيّة العربية -فيما يظهر لي- طه حسين عندما قسمها إلى مدرستين: مدرسة المتكلمين ومدرسة الأدباء، معتمدًا على عبارة أبي هلال العسكري في كتابه...
من أدق قضايا بلاغة المتكلمين أنّ المطابقة عندهم شرطٌ في تشكيل الوعي الإنساني، وتظهر دلائل ذلك في حديثهم -وأعتمدُ هنا على كلام الجاحظ- عن حقوق المعنى؛ لأنّ إيتاء المعنى حقوقه مدار غايتهم في إفهام كل قومٍ بقدر طاقتهم. ومن حقوق المعنى في بلاغة المتكلمين أمران: ١. مطابقة اللفظ للمعنى. ٢. موافقة الحال للمعنى. ومن مفهوم حقوق المعنى عند المتكلمين أنّه الهدف في عمل الآلة البلاغية، ولذلك تجدهم يضعون في الوسط بين اللفظ والحال، أو أنْ يكون اللفظ خادمًا، وأنْ يكون المعنى محفوظًا عن كل حال حتى تبرز حالٌ موافقةٌ له، أي: المعنى ليس في خدمة الحال، بل الحال تبعٌ للمعنى. ويتراءى لي أنّ المعنى في بلاغة المتكلمين أصلٌ من أصول الوجود؛ إذ لا وجود لو عُدم المعنى، والأشياء لا تكون أشياء متكوِّنةً حتى تحمل في...
يرى باحثٌ أنَّ الغايةَ في البلاغةِ العربية كشفُ مواطن الجمال وأسراره وأسبابه، والبلاغة شيء مغايرٌ للجمال؛ لأنّ الجمال قيمةٌ متصلةٌ بالأشياء وصفةٌ تُلحظُ في الأشياء وتبعثُ في النفس سرورًا ورضا، والبلاغة آلةٌ تمكِّنُ من إفهام المعاني الخارجيّة أو تصريفها على مقتضيات النفس لإنتاج المعاني النفسيّة. وفي تقديري أنّ البلاغة العربيّة ليست غايتها الكشف عن مواطن الجمال، بل غايتها أنّ تساعد على نقل المعاني بين الناس ولذلك يطلقون عليها لفظ: آلة البلاغة، وأنْ تمكّنَ النفس من التصرُّف بالأوضاع اللغويّة لتحقيق غاية الإنسان من صناعة المعنى. أما قولك: وجهٌ كالشمس. فليس من الجمال إلا في جهة أنّك تريدُ التقرّب إلى المخاطب وضمَّه إلى جناحِكَ إنْ كانت غايتك تمكين النفس من التصرُّف بالأوضاع اللغويّة من أجل تحقيق...
المعاني التي تنشئها النّفس هي المعاني التي يمكنك التصرُّف بها عندما تكون متكلِّمًا أو متلقّيًا؛ لأنّ المعاني الناشئة من النفس المتكلِّمة تقابلها معانٍ أخرى تنشئها النفس المتلقّية، وكلُّ ذلك راجعٌ إلى ما تمتاز به النفس الإنسانية من أنَّها نفسٌ متصرِّفة تباين غيرها من الأنفس الحيوانية المسخّرة. وهذه النشأة هي النشأة الثانية للمعاني أو لنقل هي صناعة المعاني في النفس، ومعنى ذلك أننا نقرُّ بإدخالنا الأوضاع اللغويّة السابقة على المعاني النفسية في داخل الإنسان ليتمكّن من التصرُّف بها وتصريفها تصريفًا يوافق أغراضه ومقاصده، وهنا نكون قد جعلنا المعاني في الأوضاع اللغويّة موادّ تصنيع المعاني النفسيّة، وأيضًا اكتشفنا أنّ تسمية المعاني النفسية أغراضًا ومقاصد أمرٌ يعود إلى الذاتيّة، ويمكن من خلال ذلك أنْ...
من أدلِّ الدلائل على اهتمام الجاحظ بالألفاظ أنّه سلَّط عمل الآلة البلاغية على الألفاظ فيما قاله عن البيان الذي هو: اسم جامع لكل شي‌ء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير... ثم علل ذلك بأنّ مدار الأمر على الفهم والإفهام بأي شيء كان ذلك الفهم والإفهام. وهذه الشيئية ليست إلا الألفاظ أو قسيماتها من الإشارة والخط والحال والنصبة؛ لأنّ هذه الخمسة وسائل الآلة البلاغية التي تستعمل لكشف قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير. واستعمال الجاحظ للفظة (قناع) تناسب ما أورده عن بلاغة الكتّاب من إحسانهم التعبير عن المعاني بالألفاظ الواسطة، وهذه إشارةٌ إلى أنّ الجاحظ ينظر إلى ما يمكن أنْ يحقق انتقال المعاني من قوم إلى قوم، ومن طبقة إلى طبقة وهو وسطٌ في نظره بين شيئيات العالم المحسوس ومعاني الدوالّ المشيرة...